يصنّف غريغور مندل (Gregor Mendel) كواحد من أهم علماء القرن التاسع عشر، فما بين عامي 1856 و1863 قاد هذا العالم النمساوي جملة من التجارب دحض بها عددا من النظريات السابقة ووضع بفضلها أسس علم الوراثة الحديثة، ليلقب بناء على ذلك بأب علم الوراثة.
ولد غريغور مندل في 22 تموز سنة 1822 لعائلة فقيرة امتهنت الفلاحة بإحدى القرى الصغيرة بشمال مورافيا (North Moravia) الموجودة حاليًا بتشيكيا. وعلى الرغم من قلّة مواردها المالية، آمنت عائلة مندل بأهمية الثقافة والعلوم، فما كان منها إلا أن أرسلت ابنها غريغور مندل لتعلم الرياضيات والفيزياء والفلسفة.
صورة لغريغور مندل
خلال مسيرته الدراسية، عانى مندل من مشاكل عديدة كانت أبرزها مادية وصحية، فبالإضافة إلى الفقر تدهورت الحالة الصحية لأب علم الوراثة مرات عديدة نتيجة المرض، وهو الأمر الذي أجبره على الانقطاع عن الدراسة لأكثر من مرة. وبالتزامن مع ذلك، التحق غريغور مندل بدير القديس توماس (St Thomas’s Abbey) ببرون (Brunn) في النمسا، الموجودة حاليًا في مدينة برنو (Brno) بتشيكيا، ليواصل تعليمه على يد عدد من الرهبان الأوغسطينيين المثقفين والمعجبين بالفيزياء والرياضات.
درس مندل بدير القديس توماس ليصبح راهبًا، ثم انتقل ليواصل تعليمه في جامعة فيينا سنة 1851. وأثناء تواجده في فيينا، أعجب مندل بمهنة المدرس وحاول جاهدًا أن يحصل على شهادة معترف بها للتدريس في إحدى الجامعات، ولكنه فشل مرتين في اجتياز الاختبار حيث كان الأخير عاجزا عن إتمام الجزء الشفهي من الاختبار.
غريغور مندل خلال اجرائه لأبحاث على البازيلاء
خلال العام 1853، عاد الراهب غريغور مندل مجددا لدير القديس توماس ليعمل كمدرس فيزياء بها، ويباشر خلال نفس الفترة أبحاثه حول علم الوراثة لدحض النظريات السائدة والتي آمنت أن الصفات الوراثية مزيج من صفات الآباء، وأن سلالة الهجين تميل للعودة لأصلها مع مرور الوقت، وأن تكاثر الهجين غير قادر على خلق أشكال جديدة.
وخلال تلك الفترة، اتجه مندل لاستغلال حديقة الدير لإجراء تجارب على الوراثة، حيث اعتمد الأخير على البازلاء بسبب تنوع صفاتها الوراثية وقدرتها على التلقيح الذاتي عن طريق كمية قليلة من حبوب اللقاح ونموها السريع.
صورة معاصرة لدير القديس توماس
في بادئ الأمر، زرع مندل بذور بازلاء تمتلك أزهارا أرجوانية وتركها تتلقح ذاتيًا ليحصل في النهاية على سلالة نقية، وعقب ذلك أجرى تلقيحًا ثانيًا نقل خلاله حبوب لقاح بازلاء أرجوانية الأزهار إلى أخرى ذات أزهار بيضاء، ثم عكس العملية قبل أن يقدم على زراعة البذور التي أنتجتها التجربة.
وفي الأثناء، ذهل مندل عندما شاهد أن أفراد الجيل الأول من التجربة كانت بازلاء ذات أزهار أرجوانية، وفي سعيه لفهم سبب اختفاء النبات ذو الأزهار البيضاء عمد مندل لزراعة بذور الجيل الأول للتجربة ليحصل على جيل ثان كان ثلاثة أرباعه من ذوات الأزهار الأرجوانية وربعه الآخر من ذوات الأزهار البيضاء. لاحقًا، أعاد مندل التجربة على صفات أخرى كطول ساق النبتة ولون البذور ليتحصل في كل مرة على نتائج تشبه سابقتها، حيث تسود في الجيل الأول صفات أحد الأبوين قبل أن تزول بالجيل الثاني، وانطلاقا من ذلك أطلق مندل اسم الصفة السائدة على الصفة الظاهرة واسم الصفة المتنحية على تلك التي اختفت.
لوحة تذكارية لمندل في مدينة أولموك بتشيكيا
وبفضل هذه التجارب على البازلاء، حصل غريغور مندل على قوانين الوراثة المندلية (Mendelian inheritance)، ومن خلال قانون انعزال الصفات يحمل كل فرد زوجًا من الجينات لكل صفة حيث تورث هذه الجينات من قبل الأبوين بطريقة عشوائية، ويحدد الجين السائد الصفة السائدة في كل النسل. ومن خلال قانون التوزيع المستقل، يورّث الوالدان الجينات المسؤولة عن الصفات المنفصلة بشكل مستقل عن بعضها البعض أي أن اختيار الجين المورث لصفة ما لا يتدخل ليؤثر في اختيار الجين المورث لصفة غيرها.
لوحة زيتية تجسد غريغور مندل
في 7 شباط سنة 1865، قدّم مندل أبحاثه لتعرض لدى Brunn Society for Natural Science والتي وافقت على نشرها خلال العام التالي. وعلى الرغم من دقة الأبحاث والنتائج، لم يعر أحد أي اهتمام لأبحاث مندل التي كانت سابقة لعصرها، حيث عادت أبحاث أب علم الوراثة لتظهر مجددًا بعد نحو 30 عاما وتثير اهتمام عدد كبير من العلماء. وفي غضون ذلك، لم يكن غريغور مندل حاضرًا ليشاهد النجاح الباهر الذي حققته أبحاثه على البازلاء، والتي أنتج أكثر من 10 آلاف بذرة منها خلال أبحاثه في حديقة الدير، حيث فارق هذا العالم النمساوي الحياة خلال شهر كانون الثاني سنة 1884 بسبب التهاب بالكلى.