تحمل المغنية المصرية فاطمة سعيد لقب “السبرانو”، وهو لقب أوبرالي يُمثل درجة عالية من إتقان الغناء قلما تحوزه فتاة شابة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. ويبدو صوتها وهي تُغرّد بأغان ساحرة باللغات العربية والفرنسية والإسبانية والإيطالية دافئًا شجيًا وقريبًا من النفس، وهو يحكي حكايات إنسانية تمس الوجدان وتصل إلى القلب وتبعث في المتلقي شعورًا غامرًا بالسعادة والبهجة، حتى وإن لم يكن هذا المتلقي يفهم كلمات الأغنية المطروحة بلغة مغايرة.
لقد إختبر كاتب السطور ذلك الإحساس الجميل عندما استمع إلى السبرانو الشابة وهي تشدو بأغنية فيروز الجميلة “أعطني الناي وغنّ” والتي أبدع كلماتها الشاعر جبران خليل جبران، ما جعله يتذكر عبارات ساحرة كتبها الكاتب العربي ابن عبدربه، قبل أكثر من ألف سنة في كتابه الأثير “العقد الفريد” في فضل الغناء، حيث قال إنه قد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من إصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب.
كان من اللافت أنّ مجلة “أوبر” الألمانية، حيث تعيش سعيد الآن في مدينة برلين، إختارتها كشخصية لغلافها في عددها الأخير، تشرين الأول 2020، وذلك إحتفاء بألبومها الغنائي الجديد الصادر قبل أيام تحت عنوان “النور” من إنتاج شركة “وارنر كلاسيك” العالمية، ما يُمثل عملا فريدًا يكاد يكون غير مسبوق بين الفنانين العرب.
يضم الألبوم للمرة الأولى في الألبومات التي يطلقها مُغنّ واحد، أغاني مختلفة بثلاث لغات، ويمزج بين الفن الكلاسيكي القديم وما يضم من أغاني الفلكلور الشعبي في بلدان متوسطية عديدة، بالموسيقى الغربية الحديثة، وكأنه يؤكد أنّ الفن واحد ولو إختلفت اللغات وتعددت الأزمنة.
وتحاول المغنية الشابة التي تعتبر الراحلة أم كلثوم، بالرغم من الفارق في اللون الغنائي، قدوتها ومثلها الأعلى، رسم جسور للتآلف والتعايش والتلاقي بين الشعوب من خلال روائع ساحرة أثّرت في أجيال عديدة، منها مثلا أغنية “يمامة بيضا” وهي من التراث المصري القديم، كتب كلماتها داوود حسني قبل بداية القرن العشرين، وغناها مطربون كثر على مر الزمن بتوزيعات موسيقية مختلفة، لكنها لم تُغنّ من قبل بأسلوب أوبرالي.
ومن أغانيها أيضًا أغنية “وداع المرأة العربية”، وهي أغنية فرنسية شهيرة من كلمات الروائي فيكتور هوغو، ومن أعمال الموسيقار بيزيه، وفيها يصاحب سعيد عازف البيانو الشهير مالكوم مارتينو. وهذه الأغنية في الأصل قصيدة كتبها هوغو في القرن التاسع عشر ضمن قصائد حملت عنوان “الشرقيون”، ونشرت سنة 1829، وتحكي حكاية مرأة عربية تعيش قصة حب مع رجل أوروبي، اضطرّ للسفر إلى بلاده وتركها وحيدة، فلجأت إلى الغناء لتذكّره بالذكريات الجميلة معه وتخبره كم تشتاق إليه.
وإذا كان الجمهور الفرنسي عرف الأغنية عبر موسيقى تقليدية إقتصر فيها على إستخدام آلة البيانو، فإن فاطمة سعيد قررت في إطار محاولاتها للتجريب والتجديد إستخدام الناي ضمن الآلات للتعبير عن الموسيقى الشرقية، كأنها تقول إن مرأة تعبّر عن الشرق تحتاج لآلة موسيقية شرقية تتناسب مع بيئتها.
ويضم الألبوم الجديد أيضًا أغنية إسبانية شهيرة يقول فيها الحبيب لحبيبته “أريد أن أغزل ضفائر شعرك سلاسل تحوطني للأبد”، وهي من كلمات فريناندو أوبرادورز، ويعزفها على الغيتار رافائيل أجيره.
أعادت سعيد تقديم أغنية فيروز الشهيرة “أعطني الناي وغنّ” بصوت قوي وعال وإحساس موسيقي مختلف، لتبدو كأنها أغنية جديدة تُسمع للمرة الأولى، وهو ما كان محل إهتمام وإعجاب جمهور الأوبرا من العرب أو غير العرب.
حكت سعيد، عبر صفحتها الرسمية على “فيسبوك”، عن ألبوم “النور”، مشددة على أنّ المعنى المقصود من العنوان التأكيد على أن الموسيقى نور يضيء للإنسانية دروبها المظلمة، وأنها لغة في حد ذاتها وعابرة للحدود، يفهمها الإنسان ويتفاعل معها في كل مكان. وقد إستغرق إعداد الألبوم، حسب قولها، قرابة العام وركزت فيه على المزج بين الثقافات المختلفة ومد خطوط تواصل بين موسيقى كل بلد متوسطي مع البلد الآخر.
وقفت سعيد في قاعة ألبرت الملكية بلندن قبل شهور أمام أكثر من خمسة آلاف مستمع، منهم ثلاثمئة شخص لم يجدوا مقاعد خالية وإضطروا للوقوف لساعات للإستماع لصوتها الشجي، وهي تترنم بلغات عديدة أتقنتها، وبرعت في تطوير أداء الأغاني المعروفة وإعادة تقديمها بطريقة مستحدثة وإحساس عميق يلامس كل معنى، ويعيد رسم كل كلمة لتبدو المتعة حاضرة بلا حدود.
هذا وقد طافت السبرانو المصرية قاعات فن عديدة وشاركت في حفلات موسيقية متنوعة في دول أوروبية مختلفة، لتسحر آذان المستمعين بقوة صوتها وعمق إحساسها، وإدراكها لكل معنى بلغته الأصلية حتى إعتبرها الألمان ألمانية، والإيطاليون إيطالية، والفرنسيون فرنسية.
ولدت في القاهرة عام 1991 في أسرة عاشقة للفن والموسيقى، وكان والدها عضوًا في البرلمان المصري، وبدت موهبتها منذ طفولتها في المدرسة الألمانية بالقاهرة، إذ كانت تغني في كثير من الحفلات المدرسية، حين رأى مدرس الموسيقى الألماني أن صوتها خلال الغناء مميّز شجعها على دراسة الغناء وتوقع لها أن تصبح مغنية أوبرا مشهورة، ونصحها بإجراء بعض التمارين، ما دفعها للإلتحاق بالأوبرا المصرية والتعلم على يد أستاذة الغناء الأوبرالي بالقاهرة نيفين علوبة التي رأت أن لديها موهبة قوية وسرعة بديهة وقدرة جيدة على سرعة إتقان اللغات المختلفة فنصحتها باستكمال تعليمها في ألمانيا.
سافرت إلى برلين لتدرس الغناء في جامعة هانز أيسلر تحت إشراف ريناته فالتين، ثم حصلت على البكالوريوس في الغناء سنة 2013، وأتبعته بالفوز بمنحة في أكاديمية تياترو ألاسكالا في مدينة ميلانو في إيطاليا. ثم اختبرت المشاركة في أعمال عالمية خالدة لتصبح المغنية المصرية الأولى تقف على مسرح ألاسكالا، الذي يمثل حلمًا لكل مطرب أوبرالي حول العالم. وقد برعت في بطولة أوبرا “الناي السحري” لموتسارت تحت قيادة أدم فيشر وإخراج بيتر شتاين، وسجلت أوبرا “آرتي” والتي تمت إذاعتها في قناة التلفزيون الأوروبي عام 2016 ولاقت نجاحًا عظيمًا، ما جعل الجمهور يتفاعل معها ويعتبرها الصوت الأكثر تفضيلا.
وصفت الصحف الألمانية والإيطالية السبرانو المصرية بأنها اكتشاف واعد، وأن أداءها مبهر وخال من الأخطاء، ورأى بعض النقاد أن صوتها قريب الشبه بمطربة الأوبرا العالمية اليونانية ماريا كالاس. خلال تلك الفترة، حازت سعيد جوائز عديدة كان من أشهرها جائزة “فيرونيكا دن” العالمية للغناء في مدينة دبلن في إيرلندا عام 2016، ثم حصلت على المركز الأول في مسابقة الأوبرا العالمية السابعة لليلي جنشر في إسطنبول.
كان نصيبها المركز الثاني في مسابقة الغناء العالمية السادسة عشرة لروبرت شومان في مدينة تسفيكاو بألمانيا، وجائزة غوليو بيروتي الأولى للأوبرا في ألمانيا، وغنت على مسارح عالمية عديدة، مثل مسرح سان كارلو في نابولي في إيطاليا، ومسرح أوبرا هامبورغ، الغيفاند هاوس في لايبتسيج، والكونسرت هاوس في برلين، إلى جانب مسارح دوسلدورف وبون وباد كيسينغن وميونخ. كما غنت في الأوبرا الملكية في مسقط وفي قاعة ويغمور هول في لندن بإنجلترا، وأوبرا ويكسفورد والموتسارتيوم في سالزبورغ، والكونتسرت هاوس في فيينا، ودينار في فرنسا.
وقامت أيضًا بتسجيل السيمفونية الثامنة لمالر تحت قيادة المايسترو أدام فيشر في دوسلدورف، والتسجيل لراديو الـ”بي بي سي” مع أوركسترا الـ”بي بي سي” الفيلهارموني، إلى جانب مصاحبتها لأوركسترا برمنغهام الفيلهارموني الملكي في قاعة برمنغهام السيمفونية. فضلا عن قيامها بجولات موسيقية عديدة، منها جولة في مدن فرنسية عديدة لتغني دورة “شهرزاد” مع أوركسترا الشونزاليزيه لراڤيل، ثم فوريه ريكويم في أمستردام على مسرح الكونسرتجباو التاريخي.
إلى ذلك، توجد أدوارًا عديدة لا ينساها جمهور الأوبرا في أوروبا للسبرانو سعيد، منها دور نانيت في أوبرا “فالستف”، وكلوريندا في أوبرا الأطفال “سندريلا”، ودور بيرتا في أوبرا “حلاق إشبيلية”، ودور لامور في أوبرا “أورفيليا وأوريديس” التي أقيمت على مسرح لاسكالا عامي 2017 و2018. وطوال مسيرتها شاركت الكثير من المغنيين والموسيقيين العالميين مثل زابينه ماير ورولاندو ڤيازون وخوان دييغو فلوريز وميشيل شادي وغوزيه كوره، وغيرهم.
يبدو أن النجاح المبهر والسريع لسعيد لفت أنظار الحكومة المصرية والنخبة المثقفة في القاهرة، والتي حرصت على تكريمها، باعتبارها نموذجا للشباب المتفوق والمبدع والقادر على الارتقاء وتحقيق حلمه في العالمية. ودعيت مرات عديدة لمؤتمرات الشباب التي تعقدها مؤسسة الرئاسة في مصر، وقامت بالغناء في إحتفالات عامة للأطفال والمرأة، وتم اختيارها لتمثل بلدها في الإحتفال بمؤتمر حقوق الإنسان في جنيف، الذي أقامته الأمم المتحدة، وغنت وقتها لحق الطفل في الحصول على تعليم مناسب.
قام المجلس القومي المصري للمرأة بتكريم فاطمة سعيد باعتبارها نموذجا مشرّفا للفتاة المصرية، بالرغم من أن عمرها لم يتجاوز الخامسة والعشرين وقتها. وحصلت السبرانو الشابة على جائزة الإبداع من رئاسة الجمهورية في مصر لتصبح بذلك مغنية أوبرا الأولى التي تحظى بذلك التقدير.