في القصص القديمة، كان الإله قد علّم آدم الأسماء… ولما “كانت الأرض كلّها لسانًا واحدًا و لغة واحدة” أقام الناس برج بابل ليصلوا به رأس السّماء، فغضب الربّ يهوه عليهم وبلبل ألسنتهم لئلا يتفقوا على شيء بعدها.
نظرة قصيرة على البحث في أصل اللغة وعالميّتها:
بغض النّظر عن إمكانيّة صحّة هذه القصص الدينيّة إلا أنّها كانت حتميّة بحيث وجّهت البحث اللغوي – وستوجّهه لقرون أخرى- نحو افتراض وجود لغة واحدة أولى “أصليّة” عالميّة تحدّر منها هذا التنوّع اللغويّ الهائل الذي نشهده اليوم، أي أنّها تُحيلنا مباشرة إلى مسألة أصل اللغات واللغة العالميّة، ومع ظهور التفسيرات الدنيوية فإنّها بدأت تضيف على التفسيرات الدينيّة أو تحلّ محلّها، فأثّرت الداروينيّة في علم اللغويّات منذ عام 1859 حيث قورن تطوّر اللغات بتطوّر الأنواع، وعنت وحدة السلالات البشرية أو السلف المشترك للأحياء (monogenesis of mankind) أصلًا لغويًّا مشتركًا (monogenesis of language)، إلى أن أخذ داروين برأي اللغويين الجدد بما فيهم شلايشر (1863) الذي أثنى على نظريّة التطوّر ولكنّه قال بتعدّد الأصل اللغويّ (polygenesis).
وبسبب هذا التلاطم وعدم الموضوعيّة وقلّة الأدلّة المباشرة نصّت المادّة الثانية من نظام جمعيّة اللسانيّات بباريس عام 1866 على منع “أي عرض يتعلق بأصل اللغات، أو بإنشاء لغة عالمية شاملة”، حيث رأت الجمعية ومؤيّدوها أنّ مثل هذا البحث لا بدّ وأن يكون تخمينيًّا أي لا قيمة له. وبالرغم من هذا المنع، استمرّت الأبحاث وسار اللغويون باتجاه تجريبيّ أمام انشغالهم الجديد: قرابة اللغات الطبيعيّة من خلال “أُسَر”.
وإلى يومنا هذا، ما زال البعض يؤيّد المنع، وآخرون يسعون لإعادة بناء “الجذور السبعة والعشرين للغة البدائيّة” من خلال منهج المقارنة المتعدّدة الأطراف، مثل م. رولن في كتابه “حول أصل اللغات واللغة البدائيّة” (2007).
لماذا لا يتكلّم الجميع بـ “لغة واحدة” ؟
أنا أتكلّم إذن أنا موجود… قد تسري القاعدة بهذه الصّورة، فأنا أتكلّم لأقول للآخرين “أنا هنا، لاحظوني”. وتحت مجهر عالِم اللغة تُلاحَظ اختلافات لغويّة على المستوى الفرديّ، وبهذا تكون لغتي جزءًا من هويّتي أو هويّتي ذاتها، ألم يقل محمود درويش: “أنا لغتي أنا؟” وبما أننا -بالضرورة- جزء من مجموعات معيّنة محاطة بنا فإنّ لغاتنا تتشكّل بحسبها، ولو حدث انشقاق داخل هذه المجموعات ستنشقّ الطريقة اللغويّة أيضًا.
وبشكل عامّ، يُعتقد أنّ تنوّع اللغات أمر طبيعيّ يعود إلى التراكم التدريجي للتغيّرات والتطوّرات وانفتاح اللغة على التاريخ والذي يؤدّي بالضرورة إلى “انجراف اللغات بعيدًا” عن بعضها. لوبيان وريك (في مقالهما: “لماذا عندنا لغات مختلفة؟ دور التكيّف على التنوّع اللغويّ”) لا يحبّان مصطلح “انجراف” اللغات بل يحاولان إثبات تأثير البيئة (بما فيها الثقافة والسياق الاجتماعيّ والعوامل الجينيّة وغيرها) على لغتنا، ويستخدمان مصطلح “التكيّف”، فلغاتنا تختلف لأنها تتكيّف مع البيئة المحيطة تمامًا مثلما تختلف عادات أكلنا وطرائق لبسنا.
ويمكننا الخوض في الأمر لأبعد من ذلك، فاعتباطية اللغة (Arbitrariness) تسمح بكلّ هذا التنوّع. فلا بدّ أنّك تساءلت يومًا: لماذا نسمّي “الكرسيّ” كرسيًّا؟ كان يمكن أن نسمّيه أيّ شيء آخر! هذا صحيح، أيّ اسم كان ليجدي نفعًا، فليس بين الألفاظ ودلالتها صلة طبيعيّة أو ذاتيّة، أي ليس هناك علاقة بين صوت الكلمة “كرسي” وما تدلّ عليه في الواقع “الكرسي في الحقيقة”، ولهذا نستطيع أن نطلق عليه أيّ تسمية، مثل chair أو غيرها. وباختصار: نحن جميعًا ندرك نفس الواقع ولكننا نستطيع التعبير عنه برموز مختلفة.
وماذا بعد؟
إذا سألتك عن لغة الفكر والعلم والثقافة في يومنا هذا، فأغلب الظنّ أنك ستعرف الإجابة: إنّها الإنجليزيّة بلا شكّ، كما كانت الفرنسيّة كذلك في القرنين السادس والسابع عشر. حيث تنتشر الإنجليزيّة على مساحات واسعة حول العالم، وهي لغة أمّ لكثير من النّاس، ولغة ثانية لغيرهم، ونكاد لا نجد أحدًا لا يعرف التواصل الأساسيّ بها: فهي لغة مشتركة Lingua-franca تجمع بين الناس الذين لا يتكلّمون بنفس اللغة. إلا أنّنا نبحث عن لغة محايدة، لغة للجميع تسهّل علينا التواصل وتهدم الحواجز بيننا وتنهي مشاكل الترجمة.
إلى أين تأخذنا هذه النّظرة الطوباويّة؟ أليس هنالك أمل؟
يدّعي تشومسكي أنّ هناك قواعد عالميّة وخصائص تشترك فيها كلّ اللغات وأنّها موجودة في دماغنا مسبقًا؛ وهذا ما يفسّر سرعة تعلّم الطّفل للّغة: فهو مولود بقواعد موجودة مسبقًا وتعمل البيئة المحيطة على تشكيلها فقط. وسمّي هذا بـ “النحو الكليّ القبليّ”.
كان هذا أملًا للكثيرين. والآن، لماذا لا نبني لغة واحدة نموذجيّة منطقيّة؟
عبر القرون، تمّت صناعة 321 لغة لتكون عالميّة، إلا أنّها تلاشت كلّها. وكانت المحاولة الأنجح هي صناعة لغة “اسبرانتو” Esperanto التي شجّعت عصبة الأمم واليونسكو على دراستها، حيث تقام لها المؤتمرات حول العالم ويتكلّم بها حوالي 2 مليون شخص، وتتميّز هذه اللغة بسهولتها وسهولة النطق بها ودقّتها وتطابق كتابتها مع نطقها. إلا أنّه وبالنّظر الممحّص سنجد أنّ هذه اللغة غير محايدة، فهي تعتمد على اللغة اللاتينية وتهمل باقي لغات العالم، وبالتالي، سيكون من السّهل على الأميركيّ تعلّمها أما الصينيّ فسيجد صعوبة في ذلك.
هذا وبالإضافة إلى تنبؤ البعض بزوالها وتفتّتها لا محالة، فإذا افترضنا انتشارها وتكلّم الجميع بها حول العالم فإننا يجب ألا ننسى أنها ستخضع لـ “لكنات مختلفة” Accents وبيئات مختلفة وستختلف من شعب لشعب.
ها نحن وصلنا الفضاء وعجزنا عن بابل؛ فيعبّر راتوف عن هذا ساخرًا أو متحسّرًا: “إنّ الوصول إلى السماوات كان أيسر بكثير من إنشاء لغة عالميّة لسكان الأرض”.
وهكذا، يبقى بناء لغة واحدة عالميّة مستحيلًا بالنّسبة إلى البعض، وبالنّسبة إلى آخرين يظلّ الأمل معلّقًا.