الدربكة، العود والمزمار… آلات اعتبرت من أساسات الموسيقى اللبنانية… تلك الموسيقى التي كانت في البدء تصاحب رقصة الدبكة، إضافة إلى الزجل والدلعونا والهوارة والطرب… ثمّ سرعان ما تحوّلت الموسيقى في ما بعد، وخصوصًا مع استقلال لبنان، إلى طابع فلكلوري مطبوع بإبداع أبرز الموسيقيين اللبنانيين ومنهم الأخوين الرحباني… فولدت الموسيقى اللبنانية الأصيلة التي جعلت من بيروت عاصمة معروفة بفنونها ومبدعيها…
هذا وقد أدى الإنخلاط والإنصهار مع الشعوب والثقافات المختلفة في لبنان إلى خلق هوية قائمة على الإندماج الفني بين الموسيقى الشرقية والغربية، ما أدى إلى جعل الموسيقى العربية أكثر استقلالية وجرأة، تحمل هويّة مختلفة ومميزة، فرُبطت الفنون الفلكلورية اللبنانية بالموسيقى الغربية المعاصرة، وشهدت الساحة الفنية صعود مغني ومغنيات الـ Pop إلى المنصات والمسارح، إضافة إلى ظهور فرق بطابعها الغربي كالـRock والـJazz والـBlues وغيرها…
ولكن، على الرغم من هذا التنوع الفني والإنفتاح الغربي، ما زال المجتمع اللبناني متمسك أكثر بالألحان الشرقية ويُفضلها على الغربية، هذا ما يقوله الفنان المسرحي غسان الرحباني الذي يُفسّر: “نحن شعب له جذور شرقية، ومن الصعب أن يخترق المرء بأغنية أجنبية ويتصدّر كل الإذاعات…هناك مجتمع صغير لعشاق الـ Bluesوالـ Jazz الـ و Rockولكنّ الملايين من الناس يميلون أكثر إلى اللون الشرقي”.
ويُضيف: “يُمكن أن يؤلّف الشرقي أغنية غربية باحتراف وبمستوى عالمي، ولكن، هل الإنسان الموهوب في الشرق سيتمّ قبوله يا ترى عند الغرب؟… هناك غضب على الشرق، ونحن ندفع ثمنه!”
الرحباني، الذي يؤكد أنّ مرحلة “الشكل” انتهت وأنّ المرأة كما الرجل مصدر إلهام للموسيقى، اختار عالم الموسيقى متشرّبًا من والده المبدع الياس الرحباني الشغف الفني…
هذا ما قاله في دردشة لـFeminine Spirit
– غسان الرحباني، موسيقي، منتج، كاتب أغاني، ملحن، موزع، قائد أوركسترا، عازف بيانو، مغني، وممثل مسرحي. أي صفة تنطبق أكثر عليك؟
اللقب الذي أفضله هو عازف بيانو ومسرحي، علمًا أنّ كل الألقاب تناسب ما أقوم به. ولكن، عندما أعتلي خشبة المسرح من أجل الغناء وخصوصًا باللغة الأجنبية، وأرى مدى تفاعل الجمهور، أشعر وكأنني “ملك”… “ملك” بالمعنى الإيجابي للقب أي “ملك بالمحبّة”.
كذلك الأمر، عندما أكتب “سيناريو” مسرحية معيّنة وأقوم شخصيًا بالإخراج، وأسمع التصفيق، أشعر بسعادة وبهجة… لذلك، أجد نفسي أكثر في الحفلات الموسيقية والمسرح.
– نشأ غسان بين أفراد عائلة من الموسيقيين، وهو ابن الموسيقي الياس الرحباني. هل اختيارك لعالم الموسيقى كان مسيّرًا؟ لو لم يكن أفراد عائلتك من الموسيقيين هل كنت ستختار هذا المجال؟
لستُ أنا من اخترت الإنخراط إلى عالم الموسيقى وإنما هذا الشعور في داخلي هو الذي حثني إلى هذا المجال… كما أنّ عائلتي كان لها دور كبير أيضًا في التأثير على مسيرتي الفنية إذ تشربتُ الثقافة الفنية منذ الصغر…
– لماذا اخترت الإتجاه إلى الموسيقى الغربية؟ هل هناك إقبال على هذا النوع من الموسيقى في لبنان؟ أيهما أصعب الموسيقى الشرقية أم الغربية؟
تشرّبتُ الثقافة الفنية في مرحلة الطفولة، بفضل والدي، الأستاذ في الموسيقى الشرقية والغربية، فورثتُ عنه شغفي للفنّ، وسرعان ما أتقنتُ النوعين أي الشرقي والغربي…
فالموسيقى، لغة تواصل، لا تُقاس سهولتها أم صعوبتها استنادًا إلى نوعها. فالأمر هنا نسبيّ ويختلف من شخص إلى آخر… ولكن، بالنسبة إليّ، أنا أصيل في النوعين، الغربي والشرقي، وإنما كان لديّ ميول أكبر إلى الموسيقى الغربية من تلك الشرقية، إذ بدأتُ في عمر التاسعة أكتب الأغاني باللغة الانكليزية، ألحّنها وأسجلها في “الاستديو”… لقد تشرّبتُ من والدي أصول تقنيات التسجيل، كونه لا يكتب الشعر فقط ويلحّنه، بل كان أيضًا خبير في تقنيات التسجيل، وهو أمر لم يكن موجودًا في عصره…
– ما رأيك بمستوى الأغنية الغربية في لبنان؟ كيف ننهض بواقع هذا النوع من الموسيقى؟
صحيح نحن شعب له جذور شرقية، ومن الصعب أن يخترق المرء الساحة الفنية بأغنية أجنبية ويتصدّر كل الإذاعات، كما أنّ هناك مجتمع صغير لعشاق الـ Bluesوالـ Jazz والـ Rockوالملايين من الناس يميلون أكثر إلى اللون الشرقي؛ إلا أنه في المقابل، نرى أنّ الحفلات والمهرجانات للفرق الأجنبية العالمية تجذب الآلاف لحضورها… وهذا الأمر يعكس حقيقة “مخفيّة”، والتي مفادها أنّ هناك من يشعر بالقرف، وينتظر مثل الحلزون المختبئ، ليخرج عند توافر أي فرصة لسماع ما يستهويه في الفنّ، إذ على سبيل المثال إنّ إقبال أي فرقة غربية مثل Brit Floyd والتي تعزف لـ Pink Floyd التي سبق أن عزفت في لبنان لأربع مرات واستقطبت عدد كبير من الناس أكبر دليل على وجود قاعدة شعبية للموسيقى الغربية… إذًا، هناك قرف لدى الملايين وإشمئزاز من بعض المستويات الهابطة في الاداء، تتجلّى صورته من خلال لجوء الجمهور إلى الحفلات الغربية العالمية التي عادة ما تُحيى في فصل الصيف…
وللأسف، لا يُمكن النهوض بواقع الأغنية الغربية في لبنان…إذ إننا ما زلنا في فترة انحطاط لجهة إستيعاب الفنان للموسيقى وأسلوبه في الإلقاء، وهذا الإنحطاط أصبح من الصعب التحكم به وفرض الرقابة عليه في ظل وجود مواقع التواصل الإجتماعي حيث يتمّ النشر من دون أي حظر! فالجمهور أصبح أكثر عرضة لسماع ومشاهدة كل ما هو محظور عن البثّ بأمر من الأمن العام عبر قنوات التلفزة المحلية، وذلك من خلال اللجوء إلى مواقع التواصل الإجتماعي… وبالتالي، أصبحت الثقافة الفنية في تدهور خصوصًا مع تراخي الآباء مع ابنائهم في استخدام مواقع التواصل أو مع جهلهم لمدى خطورة استخدام الصفحات الالكترونية…
ولكن، برأيي، ستدور العجلة، وما نشهده اليوم، من غياب للرقابة على ما يبثّ عبر وسائل التواصل الإجتماعي، سيزول ليحلّ مكانه ما يُسمى بالـ Auto controlمثل الرقابة التي يُمارسها الأمن العام للبثّ عبر شاشات التلفاز للقنوات المحليّة…
– هل يُمكن اعتبار أن اختيار اللون الغربي مفتاح باب للعالمية؟
يُمكن أن يؤلّف الشرقي أغنية غربية باحتراف ومستوى عالمي، ولكن، الإنسان الموهوب في الشرق هل سيتمّ قبوله يا ترى عند الغرب؟ في لبنان، هناك موسيقيين محترفين يعزفون الـ Blues والـ Jazz ويُمكنهم منافسة الغربيين… “حرام أن يكونوا مولودين في الشرق”! فالسياسة تلعب دورًا كبيرًا في الخارج، وعند معرفة أنّ الفنان عربي الهويّة، يتمّ وضع الـ”فيتو” عليه… هناك غضب على الشرق، ونحن ندفع ثمنه!
– إلى أي حدّ يُمكن للموسيقي أن ينشر رسالة معينة من خلال أعماله؟
في أواخر الثمانينات والتسعينات، معظم أعمالي نشرت رسائل سياسية، وبيئية وإجتماعية… “ممنوع” و”فيتامين” و”طريق المطار” و”معالي الوزير” كلها أعمال تحمل رسائلا… كنتُ أنادي بخروج الإحتلال السوري في لبنان… لا أعرف كيف استطعتُ تمرير الأغاني في حينها عبر الشاشات… قد يكون السبب في ذلك الهيبة التي تفرضها سمعة عائلة “الرحباني”…
في الواقع، هناك فرق بين الخصومة والعدائية… كان لدينا خصومة مع الإحتلال السوري في لبنان، ولكن ليس لدينا العدائية التي عادة ما يكون سببها عرقيًا… لذلك، عند انتهاء زمن الإحتلال السوري انتهت الخصومة وأصبحنا متضامنين مع الشعب السوري…
– من هو الموسيقي أو المطرب الذي تعتبره مثالك الأعلى؟
ليس لدي مثال أعلى واحد… أستمع إلى الـJazz والـRock والشرقي والكلاسيكي، إلخ… لكلّ نوع موسيقى لديّ مثال أعلى…
– النتاج الموسيقي الفني في العالم العربي أصبح لديه أشكال مختلفة ومتنوعة، هل ترى في هذا التنوع جمال موسيقي أم انحدار لمستواه؟
في التنوع الفني أرى جمالا لا انحدارًا… ولكن، الإنحدار، يُمكن ملاحظته عند من يملك المال ولا يملك الموهبة! الموهوب يعمل ولا يُمكن نكران مجهوده… ولكن، من يملك المال يصل إلى الناس أسرع بكثير من الموهوب الذي قد يُسجل أجمل الأعمال الموسيقية ولكن يرى صعوبة مالية في إيصالها إلى آذان الجمهور…
– كيف ترى دور المرأة في الموسيقى؟ إلى أي مدى يمكن أن تكون المرأة مصدر إلهام للموسيقى؟
يُمكن أن تكون المرأة كما الرجل مصدر إلهام للموسيقى… يعود للفنان نفسه أن يختار الخط الذي يريده، إن كان راقيًا أم مبتذلا… يعود للمرأة أن تختار لتكون فنانة راقية مثل فيروز وصباح وجوليا بطرس وماجدة الرومي … أم أن تختار أن تعكس صورتها كسلعة من خلال الفنّ الهابط …
من جهة أخرى، يجب أن تعرف المرأة كيف تجمع بين “خط القلب” والـ”تقنيات” التي تتطلّب منها اداء طبقات عالية جدًا… فالفنان يجب أن يصل بصوته إلى قلب الجمهور، بعيدًا عن أسلوب التحدي في الاداء بل من خلال حلاوة اللحن وجماليته، فعلى سبيل المثال شارل أزنافور الذي أسر القلوب بصوته، يعلم متى يستخدم الـ”تقنيات” المطلوبة للاداء في الوقت المناسب… تقديم الفنان للأغنية من خلال استخدامه للـ”تقنيات” بعيدًا عن طريقة تقديمه اللحن بسلاسة، مرهق ويشبه رفع الأثقال!
– في فترة من الفترات لعب الشكل الخارجي للمرأة دورًا هامًا…هل الموهبة الحقيقية تطغى اليوم على الشكل الخارجي للمرأة؟
مرحلة “الشكل” انتهت… اليوم، ما عاد الجمهور يريد سماع “النشاز”، بل أصبح يريد “صوتا وصورة”.
– حدثنا قليلا عن مشروعكم “أكاديمية الياس الرحباني لتعليم الموسيقى”… من الأشخاص الذين تستقبلونهم في المعهد؟ هل يُمكن كأي مدرسة أن يبدأ أي شخص من “الصفر”؟ هل تجدون صعوبة في اختيار أساتذة على مستوى عائلة الرحباني؟
“أكاديمية الياس الرحباني” معهد مختصّ لتعليم الموسيقى، يستقبل كل الفئات العمرية، حتى تلك التي لا تملك أي ثقافة فنية لأنّ الهدف من المعهد هو التعليم… ومن الإجتماع الأول يُمكن أن أكتشف إن كان يُمكن أن يستفيد الفرد من تسجيله في المعهد… “أكاديمية الياس الرحباني” أكاديمية ضدّ الفساد، ولن أبيع اسم والدي كي أستقبل من هو غير مؤهل للفن، وهذا الأمر ينطبق على فروع المعهد في كل من الـ”سوديكو” وضبية وطرابلس… التعامل بشفافية وصدق مع من نستقبله في الأكاديمية مهمّ… إنّ الإرث الفني لعائلتي “سلاح ذو حدين”، وأي خطأ في العمل يطاول العائلة بسوء السمعة…
– بعيدًا عن عالم الفن، سبق لك أن خضت تجربة الإنتخابات والخوض في عالم السياسة… ماذا اكتسبت من هذه التجربة؟ ولماذا ترفض خوضها مرة أخرى؟
الخوض في عالم الإنتخابات والسياسة مضاعة للوقت… كل من كان معي كان أيضًا ضدي، لأنّ معظم الأشخاص في هذا المجال ذو وجهين… هذه التجربة علّمتني أنّ هذا المجال يتخلّله الكثير من الكذب والنفاق… من يقول لك:”أنا معك للآخر…هو ضدك للآخر…” لا أستطيع أن أكون محنكًا كالسياسيين لأنني صريح… وأنصح الفنان “لي ضارب عاينو على السياسية” ألا يتعذب ويتعلّم من كيسي!
– حدثنا عن المهرجانات الغنائية والجولات الفنية والحفلات التي شاركت فيها؟
تحيي فرقة Elias Rahbani and his orchestra الحفلات الكبيرة في لبنان والعالم العربي، وأعزف من خلالها على الـ”بيانو”، ويتمّ اختيار فنانين بغض النظر إن كانوا مشهورين أم لا، ونعزف repertoire الياس الرحباني… فالملحّن، وفقًا للقانون، له الحرية والحق في الموافقة ومنح الأغاني لمن يريد لأدائها، ولذلك، يختار عادة فنانين موهوبين خلال الحفلات لأداء أغانيه… الحفلات عادة تحمل عنوان “غسان الرحباني يعزف الياس الرحباني” ليس لأنني لا أستطيع التلحين والتأليف ولكن بوجود هذه الألحان المهمّة، مهما ألّفتُ لن أصل إلى إبداع والدي… هذا إضافة إلى رغبتي في تسويق ألحان والدي كونه كان في السابق ضعيفًا في تسويق نفسه وهمّه الوحيد كان “تغذية السوق”… مثلا الأغاني التي غنّتها فرقة Four cats من ألحان والدي…
– ما مشاريعك المستقبلية؟
إنّ مشاريعي المستقبلية تنصبّ على الحفلات والمهرجانات في لبنان والخارج… كذلك، قمتُ بتسجيل أغنية تتناول الوجدان اللبناني من خلال أسلوب “المزح المبكي”، كما هناك أغنية أخرى بأسلوبها الجدي، وسيتمّ تصويرها قريبًا…
أما بالنسبة إلى المعهد بفروعه الثلاثة، نقوم عادة بتسجيل الأغاني مع التلاميذ في “الاستديو”، وقد قمنا بذلك في عيد الميلاد، وقريبًا سنقوم بخطوة مماثلة في الأعياد المقبلة مثل عيد الأم والفصح وغيرها….