مع نسيم الفجر البارد، تستفيق من نومها المتقلّب، مرهقة مصفرة الوجه، منتفخة العينين، ومثقلة العظام. تغسل وجهها وهي تسترق النظر إلى المرآة… تلمس بأناملها المرتجفة بشرتها… ما عادت تُشرق نضارة ولا شبابًا ولا حياة مفعمة بالآمال والأحلام… حياتها ما عادت ملكًا لها… خطفتها الأيام منذ زمن بعيدٍ، منذ أن قررت أن تختار الطريق الأصعب… منذ قررت أن تُكرس حياتها لعائلتها بعد أن فقدت السند الأكبر والعمود الفقري. حينها، لم تعد ترغب لا في الشهرة ولا في الأضواء ولا في المال والجاه ولا في العروض الرنانة ولا في أحلام المراهقة الوردية. في لحظة، كل تلك القشور ما عادت تعني لها شيئًا، وما عادت تُعوّض وجود الأب الغالي… أصبحت الحياة أصعب من قبل وما عادت مغامرة، يُمكنها أن تحتمي ساعة تشاء في ظهر من حماها طيلة الأعوام الماضية… أصبحت الحياة مسؤولية وأعمق من إضاعتها على ذاتها وحبّها لنفسها. أصبحت المصدر الوحيد لعائلتها وهذا المصدر هو من سيُضيء منذ تلك اللحظة المشؤومة حياة عائلتها لترعاها بحنانٍ وتحميها من ذئابٍ كاسرة في مجتمع كافرٍ لا يرحم لا الطاهرة والعفيفة ولا المبتذلة والرخيصة ولا يُفرّق بين الصالح والطالح ولا يُساند سوى من له منه مصلحة خاصة. مجتمع أقلّ ما يُمكن القول عنه إنه في حال “أهلك ما علّموك الزمن بعلمك”… مجتمع يُستغلّ الضعيف إلى أقسى حدود ويُهاب القوي ويُسجد أمامه. مجتمع أقلّ ما يُمكن الكلام عنه بأنه رحلة إلى الحجيم وحقل من التجارب لا ينجو من جشعه ودناءة تفكيره وحسده وسوء نواياه سوى من حصّن نفسه بتربية صلبة وشخصية فولاذية وإيمان متمسك بالمبادئ والأخلاق…
كانت تُذاكر في الليل وتستعدّ مع بزوغ الفجر للذهاب إلى دوام عملٍ ما عاد جسدها النحيل ولا ذهنها المشوش من كثرة التلوّث المجتمعي يتحمّله من شدة الإرهاق… شغفها للعمل الذي تحوّل في ليلة “ما فيها ضوء قمر” إلى موجب عليها لتأمين لقمة العيش لعائلتها، أصبح مرًا تحمّله، ولا يدري مذاقه أحد ممن حولها، إذ كانوا ينظرون إليها بحسدٍ ويتمنون زوال كل نعم الله عنها، كونهم لا يدرون أنّهم ليسوا وحدهم يحملون أثقال الحياة ومتاعبها، ناسين أنّ لكلّ إنسان في الحياة قصّة مُرّة وصعبة. كانوا يحاربونها وينتقدونها ويستفزونها ويقولون ما ليس فيها في الوقت الذي جُلّ ما كانت تريده هو العمل بسلام لتأمين لقمة العيش. وفي كل مرة كانت تنجح فيها، كانت تعلو درجة الثرثرة وتزيد النميمة والمؤامرات حدّتها… كانوا يرون فيها ما يفتقدون إليه من قوة ونور وطاقة وقدرة على التحمل.
لا أتكلّم هنا، عن وريثة الشركات والأموال التي تُدير شؤون عائلتها ولا عن النجمات وأخبارهنّ التافهة عن عمليات التجميل وتصفيف الشعر والماكياج ولا عن وريثات العائلات السياسية أو المدعومات من أزواجهنّ للدخول إلى معترك الحياة السياسية والشأن العام ولا عن بنات الفنانين والفنانات، واللواتي يظهرن نتيجة لشهرة آبائهنّ ولا عن المدعومات إعلاميًا اللواتي أصبحن مادة يومية يفرضهنّ الإعلام من أجل أن يجعلهنّ نجمات ولا عن المرأة اللعوب الرخيصة التي تسرق رجلا من زوجته… أنا أتكلّم عن نموذج للمرأة البسيطة والتي تشمل “بنت العيلة” و”ست البيت” و”أمّ الأولاد”… تلك المرأة التي تربي وتسهر وتختار الطريق الأصعب المليء بالأشواك والمطبات كي تُحافظ على مبادئها حتى ولو قُدّمت لها كل فرص الدنيا على طبق من فضّة لأنها تأبى التنازل عن حسن تربيتها وأخلاقها… أتكلّم عن المرأة القوية التي تواجه معارك جمّة في حياتها اليومية، معارك لا يدري بها أحد، مثل تلك التي فقدت طفلها حديث الولادة وتلك التي فقدت إبنها الوحيد في سنوات شبابه الأولى، تلك التي عانت من الإجهاض وصعوبة الإنجاب وتلك التي خدمت زوجها المريض فأصبحت حياتها حياة ممرضة في خدمة من قالت له يومًا كلمة “نعم” في السراء والضراء وتلك التي وقفت إلى جانب زوجها في أسوء وأحلك ظروفه الإقتصادية والمالية وتلك التي ربّت بنتها وإبنها بعد أن طلّقها زوجها الأناني وتركها من أجل أخرى، والخادمة الأجنبية التي تركت بلدها الأم من أجل العمل في الغربة…
هؤلاء هنّ العيّنة من النساء اللواتي أتحدث عنهنّ… إنهنّ المتفانيات، الكريمات، البعيدات عن حب الذات والنرجسية، العصاميات والمكدات على عملهنّ، المحترمات والطموحات اللواتي لا سند لهنّ سوى مجهودهنّ الشخصي ولا وسيلة لهنّ سوى تطوير ذاتهنّ بذاتهنّ، يرفضن التنازل عن قيمهنّ ومبادئهنّ ولا يُساومن مقابل شرفهنّ ولا ينكسرن ولا يضعفن إلا أمام عائلاتهنّ كنفهنّ الوحيد حيثُ ملاذهنّ الآمن والسعادة الحقيقية…هؤلاء هنّ النساء اللواتي أتحدث عنهنّ، مصابيح لإنارة دروب الأجيال المقبلة … هؤلاء هنّ من يستحقن أن نقول لهنّ في عيدهنّ “كل عام وأنتنّ بألف خير”…