والدي، عمودي الفقري الذي كنتُ أحتمي فيه لسنوات، أبي وأخي ورفيقي وصديقي وكاتم أسراري، وطاقتي التي كنتُ أستمدّها منه… كان حنونًا، وطيبًا، “شايفني ومش مصدّق”… ولكن، لم تكن تربيته سهلة… كان تارة صارمًا وتارة أخرى حنونًا… إلا أنه على الرغم من أنّ صرامته تلك، كانت مجرّد “تمثيل” كي يُعلّمني القدرة على التفريق بين الخير والشر، الحق والباطل، الصح والخطأ، فهذه الصرامة المصطنعة المجبولة بالحنان والطيبة خلق شخصية في داخلي طيبة وحنونة، وإنّما رزينة ورصينة في الوقت نفسه… علّمني أن أمزح بأدب، وأعطي رأيي بإحترام، وأقدّر القيمة للأمور المعنوية وليس للأشياء… علّمني أهمية الإنسانية والإحترام والثقافة وتفضيلها على المال والجاه والسلطة… علّمني أنّ الأنوثة جمالا تزداد مع إزدياد حياء المرأة ولو كانت قوية ومحصّنة من الداخل… ببساطة، علّمني التوازن في الحياة ولفظ الكلمة المناسبة في المكان المناسب كي لا أجرح أحدًا… فلكلّ مقامٍ مقال…
أتذكّر جيدًا عندما كنّا نزور الأصدقاء والأقارب، وكان يُقدّم لي الحلوى، كيف كانت نظرات أبي وأمي مسلّطة عليّ لمنعي من أخذ أكثر من قطعة واحدة ولحثي على قول عبارة “شكرًا”… والدتي، التي ربتها والدتها البرازيلية، كانت توازي والدي في أسلوب التربية، وترى في الإحترام خطًا أحمر لا مجال لتخطيه… فالتربية لغتها عالمية ولا علاقة لها بالتخيلات التي يظنها كثيرون في مجتمعنا بأنّ هذا مجمتع محافظ وذلك مجتمع متحرر وغير مقيّد… فالتربية الصالحة تصحّ في أي مجتمع كان… إذ ما زلتُ أتذكر نظرات أمي في إحدى الزيارات وتأنيبها لي عندما أدوس مقعد الأريكة بحذائي، فالجلوس بأدبٍ لدى الناس واجب مفروض لا مفرّ منه!
كذلك، ما زلتُ أتذكر نظراتي الخجولة عندما كان يكلّمني أحدهم من الكبار من أصدقاء أهلي ومعارفهم… ولكن، هذا الخجل لم يُعطني الحق بـ”مياعة” الكلام لأنه بحسب تربية والديّ المياعة قلّة في الأدب والإحترام ومخارج الحروف يجب أن تكون مفهومة وواضحة وخارجة من حنكٍ مشدود… لا مياعة ولا محن ولا دلع مصطنع ولا غنج رخيص كان مسموحًا… تربية والديّ كانت تربية لأميرات وملكات… نعم، التربية هي التي تصنع جيلا صالحًا وآخر طالحًا… ولشدّة عقدة النقص لدى مجتمعنا للتشبة بالمجتمعات الغربية وجعل التربية حرية مطلقة للطفل بالتصرف، أصبحت تربية مجتمعنا تتحوّل إلى تربية جواري وسوقية ورخص وإنحدار لا مثيل له… لا أقصد هنا أنه يجب تعنيف الطفل ولا كبح حريته لدرجة تنتقص من شخصيته وتخلق لديه عقدًا نفسية دفينة في المستقبل، وإنّما أقصد أنه يجب خلق جوًا متوازنًا فيه الكثير من الحكمة والدراية والعناية… ففي سن المراهقة، قررتُ دخول عالم الأزياء وملكات الجمال، إلا أنّ والدي كان رافضًا بشدة… ولكن، بعد مناقشته وعرض الأفكار لم يمنعني من أن تكون مهنة موقتة إلى حين أنتهي من دراستي الجامعية – كما هي حال كثيرات من الفتيات اللواتي يعملن مثلا كنادلات في المطاعم خلال تحصيلهنّ العلمي إلى حين التخرّج… كنتُ أعمل وأسافر وأسهر مع أصدقائي وصديقاتي ولكنني لم أنساق إلى المنحدر الذي انساقت إليه الكثيرات ممن أغوتهنّ أضواء الشهرة والمال والجاه… كما أنني لم أسلك يومًا نظامًا غذائيًا سيئًا، إذ لم أدخن ولم أشرب الكحول ولم أجرّب أي ممنوعات… كنت أشرب العصير أو مشروبًا غازيًا في الوقت الذي تسكر فيه الكثيرات… كنتُ أخبر والدي بكل شيء وكل تفصيل… تزامنًا لتخرجي من الجامعة، توفي والدي، من دون أن أنسى وعدي له بأنّ مهنة الأزياء فترة موقتة… ولكن، ما لم أستطع إخبار والدي به، هو أنّ ما إكتشفته خلال عملي بمجال دراستي، بأنّ الأخلاق والإحترام لا علاقة لها بالمهنة وإنّما بالتربية منذ الصغر… تربية الجواري تُسيطر بشدّة على مجتمعنا الذي إعتاد على المحن والفسق والرخص، بدءًا من شاشة التلفاز التي تستعرض مخارج حروفٍ لأفواه “مايعة” وصولا إلى الشركات والأعمال الحرة وغيرها حيثُ نجد النساء الـ”مايعات”، الممحونات، الرخيصات، يعتمدن الإغراء أمام الرجال ولو متزوجون ومرتبطون لينلن ما يردن، وينشرن سمهنّ وأسلوبهنّ الفاسد في الكلام المبطّن الخبيث مع النساء اللواتي تربّين تربية الملكات والأميرات بوقاحة وسفاهة لا مثيل لها…
عذرًا، ولكن الـ”مياعة” في الكلام والـ”براغي المفلوتة” للحنك، ليست أنوثة ولا جمال ولا دلال ولا رقة ولا شيء سوى أسلوب رخيص شبيه بالمظاهر البلاستيكية للجمال المصطنع الذي يغزو مجتمعنا كالفيروس والأسوء أنه يتمّ التباهي فيه وكأنه عملة نادرة وهو في الواقع حقيقة مرّة ورخيصة… حتى أرخص من الرخص نفسه!