في زمنٍ كانت فيه النساء يُهمّشن… والعلوم تُحاصر بالخوف والخُرافة… ولدت مرأة أضاءت ظلمة القرون بفكرها، وشقّت طريقَها بين الفلاسفة والعلماء في مدينة الإسكندرية، عاصمة العلم والمعرفة في العالم القديم.
هي ليست بطلة أسطورة، بل مرأة ارتفعت بالعلم قاطعةًًًً كل القيود، ومواجهة التعصّب بالشجاعة، والجهل بالنور… إنها هيباتيا، عالِمة الفلك والرياضيات الأولى في التاريخ، ومعلمة الفلاسفة والملوك…
في هذه الحلقة، سنكشف أسرارَ حياتِها، ونروي تفاصيلَ رحلتِها من قمّة المجد إلى قعر المأساة باغتيالها العنيف… لنطرح السؤال المهم: لماذا يخافون العلم حين ينبثق من مرأة؟
ابقوا معنا، واكتشفوا القصة التي حاول التاريخ أن يَطويها… لكنها عادت لتُروى من جديد...
عند ملتقى البحر والتاريخ، حيث يعانق المتوسط شواطئ الشَمال المصري، نشأت الإسكندرية كمدينةٍ لا تُشبه سواها… مدينةٌ لم تُبنَ فقط بالحجارة، بل بالحبر والكتب، بالحوار والأسئلة…
في أقصى شمال مصر، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، كانت الإسكندرية تتلألأ كجوهرةٍ في تاج الحضارة القديمة… لم تكن مجرد مدينة، بل كانت فكرة، حلمًا يُعاش، ومركزًا لا يُضاهى للعلم والفلسفة والفكر…
الإسكندرية، ليست مجرد أحجار، ولا مجرد أطلال… إنها الفكرة التي اجتمعت فيها حضارات الأرض… مدينةٌ بُنيت على الحرف والكلمة، وارتفعت على أعمدة الفلسفة والمعرفة…
وفي القرن الرابع الميلادي لم تكن كباقي المدن… إذ حين كانت أوروبا تغرق في ظِلال الجَهل، كانت الإسكندرية تُضيء بمشاعل الحكمة… هنا كانت المدرسة الفلسفية، هنا تُناقش أسرار النجوم، وتُكتب المعادلات، وتُترجم الكتب القديمة إلى لغات المستقبل. كانت ملتقى لحضاراتٍ مختلفة: الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والشرقية، وفي تناغمٍ فكري وثقافي نادر. في شوارعِها كانت تُتداول أفكار أفلاطون وأرسطو جنبًا إلى جنب مع حكمةِ مصر القديمة وتعاليم الشرق.
تأسست في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد على يد الإسكندر الأكبر، وسرعان ما أصبحت منارةً للحضارات، ومنبرًا مفتوحًا للفكر الفلسفي والعلمي… لم يكن فيها جدار لا يَحمل أثرًا لحوار، ولا مكتبة لا تُخفي سرًّا من أسرار الكون.
في قلبها، كانت *مكتبة الإسكندرية*، الحلم الأعظم للمعرفة الإنسانية في العصور القديمة… وقد ظلت رمزًا خالدًا للسعي وراء المعرفة… على مقربةٍ منها، كان *معبد السيرابيوم* و*المدرسة النيوأفلاطونية*، حيث تجتمع العقول المتقدة لمناقشةِ أسرارَ الكون، والروح، والمعرفة…
وهناك، في الممراتِ العميقة، وعلى رفوفٍ ممتلئة بالمخطوطات، التقت علوم اليونان بحكمة مصر، وتعايشت الفلسفة مع الرياضيات، وازدهرت الأسئلة في ظل معبد السيرابيوم ومدرسته الفلسفية.
كانت الإسكندرية أكثر من مدينة… كانت حالةً فكرية، روحًا حضارية، وفضاءً مفتوحًا لكلِ من آمن أن العقل أداة الخلاص، وأن الإنسان وُلد ليسأل، لا ليَسكُت.”
ومن بين تلك الأروقة، ومن قلب هذه المدينة النابضة، ظهرت مرأةٌ لتُصبح لاحقًا إحدى آخر رموز النور في عصرٍ بدأ يُغمَد فيه سيف العقل…
هنا، وُلدت… ومن هذا المكان، خرجت مرأة… بدأت رحلتَها، في مدينةٍ كانت تُقدّس العلم كما تُقدَّس الآلهة، وتضع الحكمةَ فوق العروش… مدينةٌ كانت، للحظات من الزمن، الحلم الإنساني الأعظم… كانت تُعلّم الرجال، وتفكّ ألغاز السماء، وتكتب أسماء الكواكب بحروفٍ من نور… إنها هيباتيا…
في إحدى زوايا مدينة الإسكندرية، وفي وقتٍ كانت فيه الفلسفة ما زالت تتنفس في أروقة المعابد والمكتبات، وُلدت في عام 370 ميلادي فتاة… لم يكن اسمها آنذاك يلفت الانتباه، لكنه كُتب في صفحات التاريخ بمدادٍ من نور…
إنها هيباتيا، عالمة رياضيات وفلك وفيلسوفة يونانية – اغريقية، خدمت كرئيسة المدرسة الافلاطونية في الإسكندرية حيث درست الفلسفة وعلم الفلك قبل مقتلها من قبل حشد مسيحي غوغائي مناهض للوثنيين.
هي ابنة الفيلسوف والعالِم الرياضي الشهير ثيون الإسكندري، التي نشأت في بيئة نادرة، حيث لا يُفرّق بين الذكر والأنثى حين يتعلق الأمر بالعلم، وحيث يُعدّ الفكر ميراثًا مقدسًا يُنقل من جيل إلى آخر…
كان والدها، عالم الرياضيات والفلك والفيلسوف، يعمل في مكتبة الإسكندرية ويُدرّس في المدرسة الفلسفية. لم يربّ ابنته كفتاة من ذاك الزمان، بل كعقل حرّ، يتنفس المنطق ويسبح في الفلك… إذ كان بيتُه لا يشبه سواه… بيت تسكنه المعادلات، وترتفع فيه صلوات الحكمة على شكل أرقام وكواكب…
ومع أنه من أفضل الفلاسفة الذين عاشوا في منتصف القرن الرابع، إلا أن المصادر لم تذكر أي شيء بشأن زوجته أي والدة هيباتيا. لكنها ربما كانت تنتمي إلى أسرة من المفكرين، لأنه كانت تتم العديد من الزيجات بين بلاغيين وفلاسفة ببنات زملائهم خلال الفترة التي تزوج فيها والدَي هيباتيا.
ليس بإمكاننا تحديد قدر التعليم التي تلقته والدة هيباتيا، لكن من الواضح أن ثيون وزوجته أنشآها على أن تكون شابة فيلسوفة ورياضية مثقفة، وهو ما يعني أن التعليم الذي حظيت به هيباتيا اختلف تمامًا عن التدريب العملي الذي كانت تتلقاه المصريات آنذاك.
وأشارت المصادر إلى أن هيباتيا تعلمت العلوم الرياضية بشكل كامل، على يد والدها، وأن اهتماماتها قد اتسعت لتشمل صورًا أخرى من الفلسفة، لدرجة أنها تفوقت على والدها بطرق عديدة. وهو ما يدل على أنها قد أجادت اللغة، والقواعد النحوية، والفلسفة (بالمعنى الواسع)، من دون ذكر أنها قد تلقت تعليمتها على يد أي معلم سوى والدها.
في مرحلة ما، انتقلت هيباتيا من كونها طالبة تدرس العلوم الرياضية في مدرسة والدها، إلى أن أصبحت أحد زملائه.
سافرت إلى أثينا وإيطاليا للدراسة قبل أن تكون عميدة للمدرسة الأفلاطونية نحو عام 400 ميلادية. وقد عرفت هيباتيا بدفاعها عن الفلسفة والتساؤل، ومعارضتها للإيمان المجرد.
وأشيع أنها كانت زوجة الفيلسوف Isodorus of Alexandria ولكنها بقيت طيلة حياتها عذراء.
تلقّت تعليمها في الفلسفة والأفلاك والرياضيات على يد والدها، لكنها سرعان ما تجاوزته، لتصبح رمزًا علميًا وفكريًا في زمانها. كانت تدرس أعمال أفلاطون وأرسطو، وتفسّر مؤلفات ديوفانتوس وبطليموس، وتسعى لفهم الكون كما يُفهم العقل نفسه.”
تعلّمت هيباتيا منذ صغرها كيف تقرأ النجوم، كيف تحلل الفكر، وكيف تسير على دروب لا تمشيها إلا الأرواح العظيمة…
كانت هيباتيا، لا تدرّس فقط العلم، بل تزرع الشجاعة في القلوب… في زمن كان الفكر فيه جريمة، كانت هي تكتب بجرأة… وتعلّم بحرية… وتعيش كأنها تعرف أن اسمها سيظل خالدًا…
لم يكن علمها مجرد تراكم للمعرفة، بل كان فلسفة حياة. كانت تؤمن بأن الفهم يبدأ من التساؤل، وأن العقل هو النور الوحيد القادر على تبديد ظلمات الجهل.
في مدينةٍ يلتقي فيها الشرق بالغرب، وفي زمنٍ يختلط فيه الفكر بالخوف، وقفت هيباتيا في بدايات شبابها، لا كفتاة عادية، بل كصوتٍ قادم من المستقبل… يهمس: العقل لا جنس له… والحكمة لا دين لها.
في القرن الرابع الميلادي، كانت مدينة الإسكندرية مسرحًا لصراعٍ حادّ بين القديم والجديد… بين إرث الفكر الهلنستي، وصعود الدين المسيحي كقوة جديدة في العالم الروماني.
وسط هذا التحول التاريخي، وقفت هيباتيا – العالِمة والفيلسوفة – بوصفها آخر رموز المدرسة النيوأفلاطونية، ومدافعة شرسة عن العقل والمنطق والفلسفة.
مع اعتراف الإمبراطورية بالمسيحية كديانة رسمية، بدأ نفوذ الكنيسة يتعاظم، وبدأت الفلسفة تُعتبر خطرًا على العقيدة الجديدة. وتحوّلت هيباتيا، لا بسبب أقوالها فقط، بل بسبب مكانتها الرمزية، إلى هدفٍ للتخوين والتشويه.
في أوائل القرن الخامس الميلادي، كانت الإسكندرية مركزًا لصراعات دينية محتدمة بين المسيحيين والوثنيين واليهود.
في تلك الفترة، تصاعدت التوترات نتيجة للنزاعات السياسية والدينية بين الحاكم الروماني للإسكندرية، أوريستيس (Orestes)، والمطران المسيحي كيرلس (Cyril)، الذي أصبح لاحقًا القديس كيرلس.
كان التفاف جمهور المثقفين حول الفيلسوفة هيباتيا يُسبب حرجًا بالغًا للكنيسة المسيحية وراعيها الأسقف كيرلس الأول، الذي كان يدرك خطورة هيباتيا على جماعة المسيحيين في المدينة، خصوصًا مع تزايد أعداد جمهورها ومن ضمنه المسيحي، بصورة لافتة.
فقد رفضت الكنيسة رسميًا أقوالها الأفلاطونية عن طبيعة الإله والحياة الأخرى بالإضافة إلى عدم التزامها بمبادئ الدين المسيحي الصارمة. كانت تعتبر نفسها أفلاطونية محدثة، ووثنية، من أتباع أفكار Pythagoras.
وقد زاد الأمر سوءً عندما دخل الأسقف في صراع مع اليهود الموجودين في المدينة، وسعي جاهدًا لإخراجهم منها، ونجح في ذلك إلى حد كبير بمساعدة أعداد كبيرة من الرهبان، الذين شكلوا ما يمكن تسميته (بجيش الكنيسة).
لم يكن باستطاعة الوالي Orestes التصدي لهذه الفوضى، بل تعرض بدوره للإهانة من جانب بعض الرهبان الذين قذفوه بالحجارة.
بعد أن علموا بالتقرير الذي أرسله للإمبراطور متضمنًا الفوضى التي جرت بالإسكندرية جراء اشتباكاتهم مع اليهود، تأزمت العلاقة بين جمهور المسيحيين وبين الوالي Orestes بالرغم من أنه كان مسيحيًا أيضًا.
وانتشرت الشائعات بأن سبب هذا العداء بين رجلي الإسكندرية يعود إلى هيباتيا وتأثيرها على حاكم المدينة.
هيباتيا، بالرغم من كونها محبوبة ومرموقة، كانت مقربة من الحاكم *أوريستيس، الذي كان كان أيضًا أحد تلاميذها كما يُقال، وكانت تدعم الحكم الروماني المدني والعلماني، ما جعلها عدوة في أعين بعض المتعصبين الدينيين الذين اتهموها بتحريض Orestes ضد الكنيسة.
هيباتيا لم تكن منخرطة في السياسة، لكنها كانت على صلة فكرية بالوالي الروماني Orestes ، ما جعلها في مرمى الاتهامات، بوصفها مُحرّضة، ومُهددة لنفوذ رجال الدين. وبدأت الشائعات تنتشر… تتهمها بالسحر، والكفر، وعرقلة إرادة الرب…
كانت الاضطرابات في المدينة تتصاعد… والغضب الشعبي، الذي غذّته النزاعات الدينية، اتجه نحوها.
وفي آذار من عام 415 ميلادي، وفي أحد شوارع الإسكندرية، عقب رجوعها إلى بيتها بعد إحدى ندواتها، تعرّضت هيباتيا لهجوم دموي، إذ تتبعتها مجموعة من المسيحيين المتعصبين، الذين يُعتقد أنهم كانوا من فئة تسمى البارابالاني (Parabalani) — وهم جماعة شبه عسكرية من الرهبان المتطرفين كانوا يعملون في خدمة الكنيسة.
ففي منتصف الصوم الكبير المسيحي، عندما كانت تبلغ 45 عامًا، تمّ سحبها من عربتها في شوارع الإسكندرية، وأخذوها إلى إحدى الكنائس أو (إلى مبنى قريب من قيصرية الإسكندرية)
هناك، تعرضت لهجوم وحشي، إذ جروها من شعرها، نزعوا ملابسها وجروها عارية، ملفوفة اليدين بحبل، في شوارع الإسكندرية حتى سلخوا جلدها، وأمعنوا في تعذيبها… سلخوا الباقي من جلدها بالأصداف الحادة وشقف الفخار، إلى أن صارت جثة هامدة، قطعوا جثتها، وألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا بها النيران، وأحرقوا بقاياها.
اغتيالها لم يكن مجرد جريمة… بل كان رمزًا لانهيار العصر الكلاسيكي القديم وبداية عصور الاضطراب الديني والفكري، وعلامة نهاية عصر العقلانية اليونانية، الذي أُسدل عليه الستار لصالح قرون طويلة من الصمت الفكري…
لكن، على الرغم من مقتلها الوحشي، لم تمت هيباتيا. فقد أصبحت رمزًا خالدًا للحرية الفكرية، وصورة خالدة لعقلٍ قاوم أن يُسكت. تظل قصتها اليوم، أكثر من ألف وستمئة 1600 عام بعد رحيلها، تذكيرًا قاسيًا بسؤال لم يفقد بريقه: متى يتصالح الإنسان مع الفكر؟
حين بلغت هيباتيا أوج نضجها الفكري، لم تكن مجرد تلميذة لمدرسة الفلسفة النيوأفلاطونية في الإسكندرية… بل أصبحت هي قلبها النابض، ووجهها الأكثر إشراقًا.
في مجتمع كان يغلب عليه الطابع الذكوري، شقّت هيباتيا طريقها كعالِمة ومُعلّمة، لا عبر التحدي الصدامي، بل عبر التفوق الساحق في العلم والمنطق والبلاغة. كانت تُدرّس الرياضيات، والفلك، والفلسفة، وتفسّر نصوص أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، بمنهج عقلاني دقيق، يمزج بين التحليل العقلي والتأمل الروحي.
وأصبحت في سن مبكرة معروفة في الأوساط العلمية والفلسفية في الإسكندرية. وبالرغم من أنها كانت مرأة في مجتمع ذكوري، فإنها اكتسبت شهرة واسعة نتيجة علمها وحكمتها.
كانت إحدى الشخصيات البارزة في مدينة الإسكندرية القديمة، وكان لها تأثير كبير في الفلك. كتبت العديد من الأعمال في الفلسفة والرياضيات، واهتمت بدراسة حركة الأجرام السماوية. كما عملت مع تلاميذها على تطوير التلسكوبات والآلات الفلكية.
بينما كانت أعمالها الفلكية قد فقدت في الأغلب، تذكر المصادر التاريخية أنها قد درست وأرست العديد من المفاهيم التي كانت مرتبطة بدراسة النجوم والكواكب.
أما في مجال “علم التنجيم” تحديدًا، فلا توجد الكثير من الأدلة التي تشير إلى أنها المرأة الأولى التي تمارس هذا العلم بشكل ملموس، على الرغم من أنّ التنجيم والفلك في العصور القديمة كانا غالبًا مرتبطين ببعضهما البعض، حيث كان التنجيم يعتمد على دراسة حركة الأجرام السماوية وتفسير تأثيراتها على الأحداث الأرضية… ولكن، ما يُمكن جزمه أنّها كانت واحدة من النساء اللواتي أثّرن في الفلك والفكر العلمي في ذلك العصر…
كانت تعمل كأستاذة في “مدرسة الإسكندرية” الشهيرة، وهي واحدة من أبرز المراكز التعليمية في العالم القديم. قامت بتدريس الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، التي كانت تجمع بين الفلسفة اليونانية والمعتقدات الدينية المصرية.
وكان طلابها يأتون من مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية، بعضهم من الوثنيين، وآخرون من المسيحيين، ومن بينهم من سيصبح لاحقًا أساقفة وقادة فكر. لم تكن تُدرّس مذهبًا بعينه، بل كانت تُوقظ فيهم روح السؤال، وتنقلهم من حدود العقيدة إلى فضاء المعرفة.
ومن بين أكثر التلاميذ شهرة سينيسيوس القيرواني Synesius of Cyrene الذي سيُصبح فيما بعد أسقفًا، بعد تلقي تعليمه في قورينا ثم إنتقاله إلى الإسكندرية، آخذًا من الفيلسيوفة هيباتيا مناهج الفلسفة والرياضيات.
في الواقع، كان المجتمع الذي نشأت فيه غالبًا ما يضع الفلسفة والعلم في الصدارة، ما قد يعني أن هيباتيا لم تكن تركز على الحياة الشخصية كما كان الحال مع العديد من النساء في ذلك العصر. إذ لا توجد مصادر تاريخية تشير إلى أنها تزوجت أو كان لها حياة عاطفية معروفة. يبدو أنها كانت مكرسة حياتها بشكل كامل لعملها وعلمها.
هناك بعض المصادر التي تشير إلى أنها كانت تحظى باحترام كبير بين تلاميذها وطلابها الذين كانوا من مختلف الطبقات الاجتماعية، لكن لا توجد دلائل على علاقة عاطفية رسمية.
في ساحة مدرسة الإسكندرية، كانت محاضرات هيباتيا أشبه بالطقوس الفكرية. لم تكن مجرد معادلات، بل حوارات عن طبيعة الكون، عن النفس، عن الزمن، وعن العلاقة بين العقل والمقدّس.
إلى جانب نشاطها العلمي، كانت هيباتيا أيضًا مستشارة سياسية للعديد من الشخصيات البارزة في المدينة، من بينهم الوالي الروماني أوريستيس. لكنها لم تكن تسعى إلى السلطة، بل كانت تنصح وتضيء وتُرشد… لا بوصفها زعيمة، بل بوصفها حارسةً للحكمة في زمنٍ يتأرجح بين النور والظلام.
في تلك السنوات، بلغت هيباتيا ذروة المجد العلمي… لكنها، في الوقت ذاته، كانت تقترب من حافة الخطر. إذ لم يكن من السهل أن تبقى مرأةٌ حُرّة، وعقلٌ مشعّ، في زمنٍ بدأت فيه العقول تُحرَق قبل الكتب…
في آذار من العام 415 ميلادي، وفي لحظة طغى فيها الغضب على الحكمة، والتعصّب على العقل، سقطت هيباتيا ضحية للعنف الطائفي. إذ، في ظل التوترات الدينية والسياسية في الإسكندرية، تعرضت للهجوم من قبل حشد غاضب من المسيحيين المتطرفين الذين كانوا ضد تأثير الفلسفة الوثنية…